معنى الاستغفار

Image result for ‫الاستغفار‬‎


الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، ونشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، ونشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

وبعد:
فإنَّ الله تعالى خلق عبادَه وكلَّفهم بغايةٍ شريفة سامية، وهي عِبادته سبحانه؛ إذ قال: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 56 - 58].

ومن فضله سبحانه وتعالى على عباده أنْ شرَع لهم عبادات يَسيرة وخفيفة على الجوارح بأجورٍ عظيمة؛ كذِكر الله تعالى، قال سبحانه: ﴿ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 35]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((ألا أدلُّكم على خيرِ أعمالكم، وأَزكاها عند ملِيكِكم، وأرفعِها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذَّهب والفضَّة، وخير لكم من أن تلقَوا عدوَّكم فتضربوا أعناقَهم ويضربوا أعناقكم؟))،  قالوا: بلى يا رسولَ الله، قال: ((ذِكر الله تعالى)).

ومن أفضل الذِّكر وأكثره أجرًا الاستغفار؛ إذ قال سبحانه على لسان رسوله نوح عليه السلام: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10 - 12]، وقال أيضًا على لسان هود عليه السلام: ﴿ وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ﴾ [هود: 52]، وقال صلى الله عليه  وسلم: ((مَن لَزِم الاستغفار، جعل الله له من كلِّ ضِيق مخرجًا، ومن كلِّ همٍّ فرجًا...)).

وليُحصِّل العبد كاملَ فضل الاستغفار، ويتأسَّى بمعانيه السَّامية، ويتخشَّع قلبه؛ يَنبغي له فَهم معانيه الجليَّة والخفيَّة، قال تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 9]، وقال أيضًا: ﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ﴾ [الأعراف: 184]، وقال أيضًا: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28].

معنى "أستغفر الله"؛ أي: طلب العبد مِن ربِّه أن يمحو ذنوبَه ويستر عيوبَه، ومن أسمائه تعالى الغفور؛ أي: الذي يَتجاوز عن ذنوب عباده ويَستر عيوبَهم، أصله في اللُّغة من المِغفر؛ أي: الساتِر الحديدي الذي يَضعه المقاتِل على رأسه.

الهمزة تفيد الحضور؛ أي: حضور القلب والعقل؛ لأنَّه لو عُبِّر بالياء "يستغفر" لكان للغائب، وحضور القلب أَثناء الذِّكر مرتبة قد تُوصل صاحبَها إلى مقام الإحسان، الذي عرَّفه النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((أن تعبد اللهَ كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنَّه يراك))، وتفيد الهمزةُ أيضًا التواضع والتخلُّص من الكِبْر، الذي قال فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنَّةَ مَن كان في قلبه مِثقال ذرَّة من كِبر))، والذي كان سببًا في كُفر إبليس وطَرده من رحمة الله، قال تعال: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 344]؛ لأنَّه سبحانه وتعالى غالبًا يتكلَّم عن نفسه بنون الجَمع المفيدَة للتعظيم، ويُشرِّع الأذكارَ بهمزة الإفراد الدالَّة على ضَعف العبد.

والسين والتاء الطلبيَّة تدلُّ على أنَّ أصل هذا الذِّكر دعاء: اللهمَّ اغفر لي، والدُّعاء خير العبادات، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((الدُّعاء هو العِبادة))؛ أي: أُطلِق الجزء على الكلِّ لبيان شرَفه، وقيل: كلُّ عبادةٍ أصلها دعاء قَلبي؛ فمثلاً أصوم وقلبي يسأل اللهَ القَبولَ والأجرَ والثواب.

وحتى يُقبل الاستغفار لا بدَّ من توفُّر الشروط التالية:
أولاً: السلامة من الشِّرك والكفر: قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27]، وقال أيضًا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48].

ثانيًا: السلامة من كسب الحرام: قال عليه الصلاة والسلام: ((إنَّ الله طيِّب لا يقبل إلاَّ طيبًا، وقد أمر المؤمنين بما أمر به المرسَلين، فقال جلَّ وعلا: ﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ﴾ [المؤمنون: 51]، وقال جلَّ وعلا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [البقرة: 172]، ثمَّ ذكر الرجلَ يطيل السفرَ، أشعث أغبر، يمدُّ يديه إلى السماء، يا رب، يا رب، ومطعمُه حرام، ومَشربه حرام، وملبسُه حرام، وغُذِيَ  بالحرام، فأنَّى يُستجاب له؟!)).

ثالثًا: اليقين باستجابة الله: قال عليه الصلاة والسلام: ((ادعوا اللهَ وأنتم موقِنون بالإجابة))، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يموتنَّ أحدكم إلاَّ وهو يُحسن الظنَّ بربِّه))، والإجابة إمَّا تكون بإعطاء السائل مسألتَه، أو بردِّ بلاءٍ عَنه، أو بادِّخارها له حسنات يوم القِيامة؛ كما ورد في الرِّوايات الصحيحة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

رابعًا: ألاَّ يكون اعتداء في الدعاء: كسؤال الله تعالى شيئًا محرَّمًا أو مستحيلاً، دلَّت الأدلةُ أنَّه يخالِف إرادته سبحانه؛ كالذي يدعو ربَّه ألاَّ يموت.

وقد جاء في الرِّوايات الصحيحة أوقات إجابة الدعاء؛ وهي عندما يكون العبد ساجدًا، وعند التحام الصفوف في الجِهاد، وعند سقوط المطَر، وفي السفر، وفي الثُّلث الأخير من الليل، وعند رفع الأذان، وعند ارتقاء الإمام على المنبر يوم الجُمعة، وفي آخر ساعةٍ من يوم الجمعة، وعند إفطار الصائم، وغيرها.

والفعل المضارع "أستغفِر": يفيد الاستمرار، عكس الماضِي الذي يفيد الانقِطاع؛ أي: أستمرُّ على الاستغفار حتى ألقى ربِّي، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ أحبَّ الأعمال إلى الله أدومها وإن قَلَّ))، وعن عائشة رضي الله عنها قالَت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "وكان أحب الدِّين إليه ما دَاوَمَ عليه صاحبُه".

والفاعِل ضمير مستتِر تقديره: أنا، وهو ضمير الحاضر يُفيد توكيد إحضار القلب عند الذِّكر.

الله: لفظ الجلالة مفعولٌ به اختياري، ومعناه هو المعبود الذي يتقرَّب إليه عبادُه بشتَّى الطاعات حبًّا وتعظيمًا، مشتقٌّ من مادَّة أَله يأْله إلهة، وقيل: الذي حيَّر العقولَ، مشتقٌّ من مادَّة الوله؛ أي: الحيرة، والمشهور الصَّحيح: القول الأول، وهو أعظم اسمٍ من أسماء الله الحسنى، وأصلها جميعًا؛ لأنَّ اتِّصافه بالكمال وتسميته نفسه بأسماء الجَلال والجمال استحقَّ أن يُعبد وحده لا شريك له، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 211].

ومن فوائد هذا الاسم أيضًا: أنَّ مخلوقات الله تعالى لا بداية لها، بمعنى أنها متسلسلة لا إلى أول، لأن الله لم يزل خالقا، فعالَم يَفنى ويخلُق الله بعده عالَمًا آخر؛ لأنَّه المعبود، وهذا الاسم لا بداية له ولا نهاية، فيقتضي إذًا أنَّه كان له عباد على الدوام.

"فأستغفر" عبادة، والفاعل "أنا" العابد، والمعبود هو الله عزَّ وجلَّ، وهذا هو التوحيد: إفراد العبد ربَّه بالعبادة، قال تعالى: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ﴾ [النساء: 36]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((حقُّ الله على العباد أن يَعبدوه ولا يُشركوا به شيئًا، وحقُّ العِباد على الله أن لا يعذِّب من لا يُشرك به)).

ومن أراد الاطلاعَ على فوائد الاستغفار، فندعوه لقراءة مقالتنا: "استثمار العبد البار في الاستغفار".

وصلى الله على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/91292/#ixzz4i6iLhfJY

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات النّاس

خوسيه موخيكا...ست رصاصات في الجسد ونضال ضد الدكتاتورية

الريف الجزائري بجماله الخلاق مع الشاعر الجزائري محمد العيد ال خليفة الرقيق المبدع الساحرة كلماته ...