مبعوث شخصي يذهب وآخر يأتي والإحتلال المغربي بألف خير


كان الزعيم الصيني ماو تسي تونغ غالبا ما يردد العبارة التالية: “السياسة تنبع من فوهة البندقية”؛ بمعنى أن ميزان القوى السياسي بين مكونات مجتمع ما تحت سيادة دولة ما، أو حتى بين الدول ذاتها، يتم تحديده من خلال الكفاح المسلح. فالحرب المسلحة هي ممارسة للسياسة بالحديد والنار، لأنها تساهم في تشكيل الواقع السياسي وفقا لرؤى وأهداف القوى المنتصرة.
قد يجادل أحد بالقول أن هذا محض نظرية عفا عليها الزمن. إلا أن المتأمل في الواقع السياسي بالصحراء الغربية يجد ظلالا تدل على صحة مقولة ماو تسي تونغ. فالواقع السياسي بالإقليم تم فرضه من خلال القوة المسلحة غداة الإجتياح العسكري لنظام الإحتلال المغربي لأرض الصحراء الغربية. وحتى بعد وقف إطلاق النار، فإن الواقع السياسي الحالي المتمثل في تقسيم الإقليم لنصفين، تم فرضه كذلك من خلال عملية عسكرية، وذلك بإحكام بناء الجدار العسكري، جدار الذل والعار. إن المجتمع الدولي غالبا ما يعمل على التعامل مع الأمر الواقع، وذلك لأن السياسة الدولية قائمة على الفلسفة البرغماتية، وهي فلسفة تم التأسيس لها أولا من طرف الفيلسوف الإيطالي نيقولاي ماكيافيلي في القرن السادس عشر الميلادي، وتقوم تلك الفلسفة على مبدأ “الغاية تبرر الوسيلة”؛ ففي حالة الصحراء الغربية، ما دامت أطراف النزاع، نظام الإحتلال المغربي والجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، ملتزمة بالأمر الواقع دون تغيير، فهي بذلك تخدم غاية المجتمع الدولي في الحفاظ على السلم والإستقرار بالمنطقة، وعليه فإن “الإحتلال” يظهر في إطار هذه الرؤية وسيلة تخدم الغاية التي تأسست من أجلها منظمة الأمم المتحدة وهي “الحفاظ على السلم والإستقرار الدوليين”، وفي إطار هذه المعادلة البرغماتية تختفي مبادئ الحق والعدالة وحقوق الإنسان والشرعية الدولية وتقرير المصير، ما دام مبدأ “الغاية تبرر الوسيلة” فاعلا وناجعا.
في إطار هذه الفلسفة الواقعية، فلسفة الأمر الواقع، يدخل إتفاق وقف إطلاق النار وتشكيل بعثة المينورسو. إن المتأمل في ست وعشرين سنة من وقف إطلاق النار يدرك بكل بساطة أن هدف الإتفاق الأممي كان في الأصل وقف النزاع المسلح ولم يكن حل النزاع بشكل نهائي. إن التصور النظري الذي حكم إتفاق وقف إطلاق النار، كان هو الشروع في عملية طويلة وشاقة من إدارة الصراع بين الطرفين بطرق سلمية، دون الوصول لعتبة حله بشكل نهائي بما يضمن حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره. لقد كان نصب عيني القيمين على الإتفاق هو وقف الصراع العسكري بشكل فوري أولا، ثم الشروع في عملية تنظيم استفتاء تقرير المصير ثانيا. ونظرا لشح المعلومات لن أدخل في خلفيات وأبعاد اللحظة التاريخية التي أدت للقبول بهذا الإتفاق، في لحظة كان يعيش فيها جيش الإحتلال حالة من الإنهاك الشديد، وكان المغرب على حافة الإنهيار من الداخل. إن هذا المعطى الأخير يدفعنا للقول أن الإتفاق في شقه العسكري كان في صالح المغرب إلى حد كبير. أما في شقه السياسي فكان لصالح الشعب الصحراوي. إلا أن الغريب هو أن المغرب جنى ثمرة الإتفاق بشكل فوري، لأن وقف إطلاق النار كان فوريا. أما الصحراويون فقد كان عليهم الإنتظار لحدود كتابة هذه السطور لجني ثمار الشق السياسي من الإتفاق والمتمثل في تنظيم استفتاء تقرير المصير في غضون ستة أشهر حسب الوارد في الإتفاق. لقد تم إعطاء الهدية فورا للمغرب، أما نحن الصحراويين فقد تم وعدنا بها ولا زلنا ننتظر. 
في اعتقادنا أن وقف إطلاق النار كان استرتيجية محكمة من طرف الأمين العام الأممي آنذاك، بيريس ديكويلار، بتنسيق مع فرنسا لإنقاذ المغرب من الهزيمة، بعد أن أنهكته حرب استنزاف ذكية وشجاعة خاضها جيش التحرير الشعبي الصحراوي في تلك المرحلة التي سبقت توقيع الإتفاق. ولم يكن الشق السياسي المتعلق بتنظيم استفتاء تقرير المصير إلا طعما للصحراويين لتحفيزهم على القبول بتوقيع الإتفاق، ولا بأس إن تأخر تمتيع الصحراويين بحقهم في تقرير المصير، ما دام المجتمع الدولي قد أحرز تعهدا مكتوبا وموقعا من طرفي النزاع بوقف الحرب، “فالغاية، على كل حال، تبررالوسلة”.
ستظهر حقيقة الأمر بعد أن تحولت بعثة المينورسو، من بعثة تقنية لتنظيم استفتاء تقرير المصير بالصحراء الغربية، إلى بعثة سياسية وظيفتها الأساسية مراقبة احترام وقف إطلاق النار وإلزام الأطراف بذلك، ثم السهر على تثبيت حالة الأمر الواقع الذي تم التأسيس له من خلال اتفاق وقف إطلاق النار. وتتضح الصورة بشكل أكبر عندما ندرك أن البعثة لم يتم تمكينها من سلطة مراقبة وضعية حقوق الإنسان بالإقليم، بما يتضمن مراقبة نهب ثرواته الذي يشكل انتهاكا للحقوق الإقتصادية والإجتماعية للشعب الصحراوي، وهو مؤشر آخر قد يجعل من المنطقي القول أن من بين أهداف الإتفاق كان هو توفير البيئة السياسية الملائمة المستقرة والهادئة لعمل الشركات المتعددة الجنسيات في الإقليم، الذي يزخر بفرص استثمار واعدة. 
لا ندعي العلم بخلفيات الصراع، وليست لنا الخبرة الكافية لتحليله تحليلا صائبا، إلا أن المعطيات التي نتوفر عليها من خلال متابعتنا للملف، تدفعنا للقول أن الأمين العام الجديد البرتغالي أنطونيو غوتيريش لا يشذ عن القاعدة التي اتبعها الأمناء العامون السابقون. فهم جميعهم ينتمون لنفس المدرسة السياسية. مدرسة البرغماتية السياسية، التي تتعامل مع الواقع السياسي القائم كما هو.
فأنطونيو غوتيريش، شخصية سياسية معروفة بتوجهها البرغماتي منذ أن كان رئيسا لوزراء البرتغال بين سنتي 1995 و2000. استطاع بفضل دهائه السياسي أن ينقذ نفسه من البطالة، فولج للمؤسسات الدولية كخبير في إدارة الشؤون الإنسانية، وهي خبرة مكنته من تبوء منصب المفوض السامي لشؤون اللاجئين بالأمم المتحدة. إن هاجس النجاح في مهمته الجديدة باعتباره أمينا عاما للأمم المتحدة، ستدفع غوتيريش لتغليب البرغماتية السياسية على حساب المبادئ المؤسسة للمنظمة. وقد ظهر ذلك جليا عندما فرض على الأردنية ريما خلف، سحب تقريرها الدولي الذي أثبت بشكل علمي دقيق ممارسة دولة إسرائيل نظام الفصل العنصري في حق الفلسطينيين. ما الخير الذي نتوسمه في أمين عام يقفز على الحقائق العلمية ويطعن في صدقية تقرير أعدته موظفة تعمل تحت إمرته؟
إن غوتيريش يدرك جيدا أن منظمة الأمم المتحدة ليست منظمة للدفاع عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، وليست في معرض الدفاع عن الشرعية الدولية. فهو يدرك جيدا أنه أمين عام لمنظمة أممية سياسية، هدفها الأساسي هو الحفاظ على حالة السلم الدولي في حدها الادنى. فليس المهم هو حل الأزمات الدولية، بل الأهم من ذلك هو إدارتها وتطويقها حتى لا تتحول إلى صراع دولي شامل. هذه هي الفلسفة التي يدير بها الأمين العام الجديد منظمة الأمم المتحدة، مثله مثل أسلافه من الأمناء العامين. إن قضية الصحراء الغربية يدخلها غوتيريش في خانة القضايا التي تأخذ صفة الأزمات الدولية غير المزمنة، ما دامت لا تشكل تهديدا للسلم الدولي. وما دام الأمر كذلك فلا بأس أن تتم إدارتها تحت البند السادس، دون العمل على الإنكباب الجدي لحلها بشكل نهائي.
وبالتالي فما دام المبعوث الشخصي السابق قد قدم استقالته فلا بأس بتعيين مبعوث جديد يخلفه، ولا بأس كذلك من أن يكون هذا المبعوث الجديد يحوز رضى المغرب، وله علاقات سابقة به وبنظامه عندما كان مديرا لصندوق النقد الدولي، ولا بأس كذلك أن تطول المفاوضات عشر سنوات أخرى. إن الأمم المتحدة ليست لها الإرادة السياسية لحل النزاع في الصحراء الغربية. الإرادة السياسية لا يملكها إلا الصحراويين الذين يكتوون بنار الإحتلال والإهانة وسرقة ثرواتهم أمام أعينهم. وبالتالي فإن المفاوضات، وإجراءات المنظمة الدولية يجب أن توازيها إجراءات من قِبَلِ أهل القضية أنفسهم، قد تساهم في تحويل الملف من خانة الأزمات التي يجب إدارتها لخانة الأزمات التي يجب حلها. ولقيادتنا واسع النظر في تحديد تلك الإجراءات.

عدنان ولد منصور
ناشط الكتروني صحراوي ومترجم

عضو المكتب التنفيذي للمركز الصحراوي للإعلام والتواصل

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات النّاس

خوسيه موخيكا...ست رصاصات في الجسد ونضال ضد الدكتاتورية

الريف الجزائري بجماله الخلاق مع الشاعر الجزائري محمد العيد ال خليفة الرقيق المبدع الساحرة كلماته ...