سيرة الصحراويين: بين الداء والدواء

بقلم : محمد حسنة
تشهد الحياة الصحراوية ظواهرا لا قبل لها بها ، بسبب الاحتكاك مع الغير والتعايش السلبي مع إفرازات العصر، ناهيك عما قد يحرض عليه العدو ويبثه من سموم ، هذا في غياب مخجل لدور الأسرة والمجتمع بكل مؤسساته التربوية التي ينبغي أن تكون فاعلة في هذا الصدد ، بالإضافة إلى عدم نبذ المخالفين و اتخاذ إجراءات صارمة ضدهم ، بعيدا عن الحسابات الضيقة والفهم القاصر للأمور، فلقد أصبحت القيم و الأعراف والعادات والتقاليد  و التراث وكل ما يمت للشهامة والأصالة بصلة في مهب الريح ، بسبب التهاون ومجارات الأمر الواقع ، و بحجة  أن بعض المقومات لم تعد تساير حرية الإنسان شبه المطلقة ووضعه الذي يجب أن يتكيف ـ في نظر البعض ـ مع متغيرات و ملامح الحياة العصرية ومعطياتها المتجددة  في كل مرة ، لكن الأدهى من هذا كله أن تذهب المثل سدا ويشهد السبيل تفرعا و تعرجا نحو الهاوية ، وهذا ما قد يؤدي إلى الانصهار والضياع في بوتقة من المسخ والعدمية الثقافية .                                 
     لقد بدأت سيرة المجتمع الصحراوي  تعرف ميلا  ملحوظا نحو المحرم ، المكروه وغير المستحب  "ولا من ناهي ولا منتاهي" وأصبح التقليد الأعمى هو السائد  بنظرة مغلوطة لما يسمى  التطور ، فكثرت المحاكاة وأخذ من سلبيات هذا التطور أكثر مما أستثمر من ايجابياته التي قد تنفع ولا تضر إذا ما تم انتقاؤها بعناية فائقة وحرص شديد على نمط  الحياة الأصلية بكل خصوصياتها المعروفة عبر التاريخ عندما كان الشعب بكل شرائحه محافظا ، متخلقا ومقاوما لكل المؤثرات الخارجية  ومغريات الشيطان .   
     إن الانتشاء  بروح العولمة المخجلة ورفاهية التكنولوجيا المغرية هما السبب في إضعاف الضمير ، وانعدام الوازع الأخلاقي ، بل وقتل الحياة و الحياء عندما أصبح ضعاف القلوب من  جيل اليوم لا يعتدون  بنصائح الكبار والمخضرمين من السلف ، ضاربين بعرض الحائط  حياة قديمة متميزة ، ظلت حبلى بدماثة الخلق وعزة النفس والذات ، حياة كان يحصنها الدين وتقومها التجارب المستنبطة على مر الأزمان  بالأمثال والحكم التي تنبذ كل فعل شائن وفاضح ، وهاهي ذي اليوم مشوبة مشبوهة .
   إن المشكلة والطامة الكبرى تكمن عندما تذهب الأخلاق وتندثر الأصالة ، ويصبح " اللي كان يكتل ما تلا ايحشم " وهنا قد تنتاب الناقد للواقع حيرة ودهشة أمام سؤال فرضه الحال ويصعب من الإجابة عليه التمادي في الرنو إلى سوء المآل ، سؤال يضع أهل النصح والإرشاد بين أمرين ، إما مجارات الواقع والسكوت على المنكر وهذا باطل ، وإما المبادرة إلى النقد وهدي الناس إلى الطريق القويم ، وهنا يصبحون مثارا للسخرية العمياء من طرف من عمت أبصارهم وأصيبت قلوبهم بأخطر داء في العصر ، لكن لا ضير في قول الحق ، و يبدو أن الكتاب والنقاد الرسميين وبعض الأقلام الحرة لم يعملوا على إثارة هذه الحقيقة ، وفضلوا الغلو والإطناب في المواضيع السياسية التي لاكتها الألسن وأسالت حبرا كثيرا على مدى طويل من الزمن دون الالتفات إلى الكثير من الأمور التي هي على قدر كبير من الأهمية كالأخلاق وحسن السيرة ، فلماذا كل هذا الوقت و العزوف عن تنوير الرأي العام للمجتمع بمخاطر العلل الأخلاقية ، بدل الغوص باستمرار في متاهات السياسة ؟ وكأن القيم والمثل العلياء شئ ثانوي يمكن التفرغ  له أو استرداده ربما بعد الاستقلال ، من هذا المنظور وبهذا الاستخفاف بخطر يداهمنا، قد نساعد هذا الزمن الغادر بشكل أو بآخر على العبث بملامحنا الثقافية والأخلاقية إلى حين يعجز فيه العطار عن إصلاح ما قد يفسده الدهر.  
    يعاب على الكاتب أو الناقد الصحراويين  قبل غيرهما من رموز السلطة أن لا  يبديا تذمرا وامتعاضا من كل ما لا يمت لهذا الشعب بصلة ، رغم أن منهم من دأب على تقديم ملاحظات على السياسة وعلى النهج العام ، دون أن يجتر نفسه إلى محاباة الوضع السائد مثل ما يفعل آخرون .
     إن عدم معالجة الظواهر المشينة وعدم الجدية في العمل على اجتثاثها قبل أن تصل كالسم إلى روح الشعب ومكارمه ، لتهاون ما بعده تهاون ، بل هو استهزاء  بقدر قد يصيب هذا المجتمع لقاء سيرة تنحرف رويدا رويدا ، قدر قد يؤدي إن استفحلت الظواهر السيئة وتفشى التقليد الأعمى إلى ما لا تحمد عقباه ، وعلى الغيورين  قبل أن يصل السيل الزبا ، أن يفعلوا شيئا للحيلولة دون سوء المآل ، و مثلما يقول المثل الشعبي الحساني " لحمة ما أتغير توكلها النار" ، فإلى متى ونحن نتفرج على واقعنا المشوب بالكثير مما هو دخيل علينا ، دون أن نحرك ساكنا أو نزيح ثقلا إن زاد ترسبا سيجثم لا محالة على مقوماتنا النبيلة وعلى أهدافنا الشريفة ؟ إلى متى ونحن لا نعتبر وقد وجدنا الطريق سالكا أمامنا بعد أن مهده الأجداد والأوائل من طينة هذا الشعب الأبي ؟  يشهد التاريخ لنا بالمجتمع البدوي المحافظ ، مثلما يمكن أن يشهد لنا بالمجتمع الحضاري المحافظ ، وهنا ينبغي أن تبقى كلمة "محافظ" لازمة لا يمكن التخلي عنها بأي حال من الأحوال إذا أردنا السير في الاتجاه  الصحيح . 
     إن الجميع دون استثناء أباء وأمهات ، مسئولين ومربين ، كتابا و صحفيين ، وسائل إعلام ، دور حضانة ومدارس ومنظومة تربوية ، عليهم كلهم دون اتكال ، بتضافر الجهود والاضطلاع  بمسؤولياتهم التاريخية إزاء سيرة المجتمع والعودة به إلى جادة الصواب ، وأن لا يتركوا العولمة والتكنولوجيا ، والعدو الغازي يفعلون فعلتهم فيه ، ولا سبيل لمنع ذلك غير زيادة الحذر الشديد واليقظة المستمرة ، والانتباه إلى  الغلو في بعض الأمور على حساب أمور أخرى قد تكون مكملة أو أهم حسب أولويتها في الحياة الكريمة ، ولا شئ أهم من التحلي بالأخلاق والمثل العليا لأنهما يشكلان درعا واقيا في كل تعايش أو احتكاك أو تصادم  مع الآخر ، وبهما وبكل ما هو مكمل لهما  يكون المصير في مأمن ، فيرتاح الضمير وتلذ الحياة ، وصدق الشاعر حين قال : إنما الأمم الأخلاق ما بقيت     فان هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا .  

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات النّاس

خوسيه موخيكا...ست رصاصات في الجسد ونضال ضد الدكتاتورية

الريف الجزائري بجماله الخلاق مع الشاعر الجزائري محمد العيد ال خليفة الرقيق المبدع الساحرة كلماته ...