نظرة على الأزمات العربية من نافذة سويسرية

عامر راشد
عامر راشد

رغم ثبوت فشلها المرَّة تلو الأخرى، مازال الرهان على الحلول الأمنية والعسكرية خياراً مفضلاً لدى غالبية أطراف الأزمات الداخلية في العديد من البلدان العربية، بما يقوض فرص تسويات سياسية، ويدفع نحو جولات عنف وحروب أشد دموية.


تفيد الخبرات التاريخية للبشرية بأن التسويات السياسية المبكرة للصراعات، الداخلية أو الإقليمية، هي أقصر الطرق وأقلها تكلفة، وبأنه لا مناص من اللجوء إليها في نهاية المطاف، غير أن ما لا يعد ويحصى من وقائع على امتداد التاريخ يؤكد أن أصحاب القرار في أحد أطراف الصراع، أو أكثر من طرف، كانوا يذهبون في اتجاه معاكس، لتجريب الحلول العسكرية والأمنية حتى الإنهاك، دون الالتفات إلى الحلول السياسية، إلى أن تفرض عليهم، بعد أثمان غالية بشرية ومادية يدفعها الجميع وتستنزفهم.
البعض يجادل في أن طبيعة تعقيد الأزمات يصعب معها الوصول إلى تسويات سياسية ترضي كل أطراف الأزمة، لاسيما إذا كان الصراع يتسم بأبعاد قومية أو عرقية أو إثنية أو دينية أو طائفية، وفي بعض الحالات مركبة. الأمر الذي يدحضه الباحث السويسري روجيه دي باسكيه، في بحث له تحت عنوان "تجربة الأمة السويسرية بين التنوع والتوحد"- ترجمة س. حبيقة، حيث ينطلق باسكيه في بحثه من حقيقة أن المجتمع السويسري تكون تاريخياً من عدة قوميات، ناطقة بالألمانية والفرنسية والإيطالية، وينقسم المواطنون السويسريون مذهبياً إلى المذهبين البروتستانتي والكاثوليكي.
إلا أنه رغم أن النظام السياسي السويسري نظام كونفدرالي، تتمتع فيه المقاطعات بصلاحيات إدارية واسعة، لم يبن هذا النظام على أساس تقسيم عرقي أو طائفي، فغالبية المقاطعات فيها تنوع قومي ومذهبي ولغوي. ولم تعرف البلاد دعوات انفصالية من منطلق عرقي أو مذهبي، سوى في فترة عابرة إبان النازية لم يكن له أي تأثير على وحدة المجتمع السويسري.
كما لا توجد في سويسرا أحزاب أو قوى سياسية تختص بقومية أو عرق أو مذهب أو هوية ثقافية لغوية بعينها، بل أحزاب وطنية شاملة لكل السويسريين بصرف النظر عن المنابت العرقية أو المذهبية أو الهويات الثقافية واللغوية الفرعية. مع الإشارة إلى أن المنحدرين من أصل جيرماني، ويتكلمون الألمانية، يشكلون أكثر من ثلثي المواطنين السويسريين.
ويعيد باسكيه متانة عرى المجتمع السويسري، رغم تنوعه العرقي والثقافي والمذهبي، إلى الروح الوطنية العالية في دولة تطبق مبدأ المواطنة أولاً، وتحترم الحقوق المترتبة على هذا المبدأ، مما عزز التزام المواطنين بأداء واجباتهم. ولعب مبدأ الحياد على الصعيد الدولي لسويسرا، منذ القرن السادس عشر، دوراً رئيسياً في تطور الثقافية السياسية للمجتمع السويسري، بالإجماع على أن أي تحالف مع أي قوة خارجية يشكل خطراً على التوازن الداخلي للدولة والمجتمع، ولذلك على الدولة السويسرية أن تحمي نفسها بنفسها، في بلد الشعب سيد نفسه من خلال ممارسة أرقى أشكال الديمقراطية المباشرة، تتيح للمواطنين السويسريين حق التدخل المباشر في شؤون الدولة، إذ تخضع القوانين والقرارات الاتحادية ذات الأهمية العامة للتصويت الشعبي إذا ما طلب ذلك من المواطنين يصل عددهم إلى خمسين ألف مواطن. كذلك يأخذ الشعب حق المبادرة في أن يطالب بتعديل دستوري ما بشرط توقيع المبادرة من قبل مائة ألف مواطن.
جدير بالذكر أن الباحث باسكيه نوه في بداية بحثه إلى أن الحالة السويسرية قريبة جداً من الحالة العراقية، ودعا العراقيين إلى أن يطلعوا على ميزات عديدة ويأخذوها بنظر الاعتبار في مشروع بناء دولتهم وهويتهم الوطنية الجامعة. نصيحة ثمينة لم تجد آذاناً صاغية لدى القوى المهيمنة في النظام السياسي العراقي الجديد، التي ضغطت من أجل تقاسم طائفي وعرقي- إثني، أضعف وحدة المجتمع العراقي وقاد إلى متوالية من الصراعات الدموية، وصلت قبل أسابيع إلى حافة محذور تقسيم العراق.
ولا يستقيم الحديث عن الخطر الذي يمثله تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" ("داعش") دون البحث في أسباب بروز هذه الظاهرة وتمددها، فالأفكار المتطرفة وأدواتها على الأرض وثيقة الصلة ببيئة حاضنة، في الحالة العراقية، كما في حالات أخرى تتقاطع معها، خلقتها أخطاء وممارسات النظام السياسي، التي أدت إلى انقسام مجتمعي حاد، تعمق بفعل مراهنة السلطة على الحلول الأمنية والعسكرية لقمع الاحتجاجات الشعبية لمكون أساسي من مكونات المجتمع، بدل الاستجابة للمطالب المحقة التي رفعها، لسحب البساط من تحت أقدام القوى المتطرفة والمتربصة بالعراق.
ولم يكن لتنظيم إرهابي متطرف كـ"داعش" أن يستمد قوته ويتمدد سوى في ظل احتقان وانقسام مجتمعي حاد، وافتقار القوى المهيمنة على الحكم إلى رؤية إستراتيجية تجنح نحو تبني حلول سياسية جذرية للحفاظ على وحدة الدولة والمجتمع، بالابتعاد عن المحاصصة الطائفية والمصالح الفئوية الضيقة، وعن التحشيد والخطاب الطائفي- الإثني، والإستقواء بالخارج عسكرياً، الذي أدخل العراق في مستنقع التقسيم والصراعات بالوكالة.
نصيحة الباحث السويسري باسكيه للعراقيين تنطبق أيضاً على السودانيين، الذين لم يأخذوا بها في معالجة ملف الصراع بين الشمال والجنوب، ففرض الانفصال نفسه رغم أنه الخيار الأسوأ للطرفين، والسودان بشماله وجنوبه مقبل على سيناريوهات لا تقل سوءاً عن سيناريو انفصال الجنوب عن الدولة الأم، إلا إذا جرى تدارك الأخطاء بالإقلاع عن الحلول الأمنية والعسكرية، وتغليب كفة الحلول السياسية التي تكفل تسويات تحترم مبدأ المواطنة وما تمليه من حقوق وواجبات، بدءاً من حقوق الأفراد وصولاً إلى احترام الحقوق القومية والعرقية..الخ، في إطار وحدة المجتمع، وصون التعددية السياسية والحزبية.
وبقطع النظر عن اختلاف الحيثيات الجزئية في مسببات وتطورات الصراع الداخلي في سورية وليبيا واليمن وبلدان أخرى، تبقى التسويات السياسية هي الحل الوحيد الممكن والأقل تكلفة بشرياً ومادياً، ولمنع منزلق التقسيم الذي تشكل فيه القوى الداخلية المتطرفة "حصان طروادة" لمشاريع خارجية، لخصها الكاتب الأميركي روبرت رايت، في مقالة نشرها في صحيفة "نيويورك تايمز" في أيلول/سبتمبر 2013 تحت عنوان "كيف يمكن لخمس دول أن تصبح 14 دولة"، وذلك وفق ما يزعم أنه في سياق إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط، في تكرار لتنظيرات سبق أن أطلقها في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، عراب المحافظين الجدد برنارد لويس، وأعاد إطلاقها بعد غزو العراق واحتلاله عام 2003، ورددها وطورها صموئيل هنتينغتون، لتصبح بمثابة عقيدة سياسية لـ"المحافظين الجدد" فيما يخص السياسات الأميركية في البلدان العربية، لاسيما المشرقية منها.
بيّْد أنه حري بالجميع أن ينظروا إلى المشكلات المعقدة من السفح المشرق، الذي تمثله التجربة السويسرية، وليس من السفح المظلم بالمشاريع الأميركية، حيث تتخبط في قاع الأزمات الحلول الأمنية والعسكرية والتحشيد الطائفي والإثني. وللمرة بعد الألف؛ إن بداية الحل بقبول مبدأ تسويات سياسية تحترم حق المواطنة، وفي مقدمتها الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.  

(المقالة تعبر عن رأي كاتبها)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات النّاس

خوسيه موخيكا...ست رصاصات في الجسد ونضال ضد الدكتاتورية

الريف الجزائري بجماله الخلاق مع الشاعر الجزائري محمد العيد ال خليفة الرقيق المبدع الساحرة كلماته ...