الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها....

 
وكتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز رحمهما الله:

"أما بعد، اعلم يا أمير المؤمنين أن الدنيا دار ظعن، وليس بدار إقامة، وإنما أهبط إليها آدم من الجنة عقوبة، وقد يحسب من لا يدري ما ثواب الله أنها ثواب، ومن لم يدر ما عقاب الله أنها عقاب، ولها في كل حين صرعة، وليس صرعة كصرعة هي تهين من أكرمها، وتذل من أعزها، وتصرع من آثرها، ولها في كل حين قتلى، فهي كالسم يأكله من لا يعرفه وفيه حتفه، فالزاد فيها تركها، والغني فيها فقرها، فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوي جرحه: يصبر على شدة الدواء، مخافة طول البلاء ويحتمي قليلا، مخافة ما يكره طويلا، فإن أهل الفضائل كانوا منطقهم فيها الصواب، ومشيهم بالتواضع، ومطعمهم الطيب من الرزق، مغمضى أبصارهم عن المحارم، فخوفهم في البر كخوفهم في البحر، ودعاؤهم في السراء كدعائهم في الضراء، لولا الآجال التي كتبت لهم، ما تقاوت أرواحهم في أجسادهم خوفا من العقاب، وشوقا إلى الثواب، عظم الخالق في نفوسهم، فصغر المخلوقون في أعينهم.

واعلم يا أمير المؤمنين أن التفكر يدعو إلى الخير والعمل به، وان الندم على الشر يدعو إلى تركه، وليس ما يفني وإن كان كثيرا بأهل أن يؤثر على ما يبقى وأن كان طلبه عزيزا، واحتمال المئونة المنقطعة التي تعقب الراحة الطويلة خير من تعجيل راحة منقطعة تعقب مئونة باقية، وندامة طويلة. فأحذر هذه الدنيا الصارعة الخاذلة القاتلة التي قد تزينت بخدعها، وفتكت بغرورها، وخدعت بآمالها، فأصبحت كالعروس المجلوة؛ فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهي لأزواجها كلهم قاتلة، فلا الباقي بالماضي معتبر، ولا الآخرة لما رأى من أثرها على الأول مزدجر، ولا العارف بالله المصدق له حين أخبره عنها مدكر، قد أبت القلوب لها إلا حبا، وأبت النفوس لها إلا عشقا، ومن عشق شيئا لم يلهم غيره، ولم يعقل سواه، مات في طلبه، وكان آثر الأشياء عنده فهما عاشقان طالبان مجتهدان؛ فعاشق قد ظفر منها بحاجته فأغنته، وطغى ونسى ولها، فغفل عن مبتدإ خلقه، وضيع ما إليه معاده، فقل في الدنيا لبثه حتى زالت عنه قدمه، وجاءته منيته على أسر ما كان منها حالا وأطول ما كان فيها أملا، فعظم ندمه، وكثرت حسرته، مع ما عالج من سكرته، فاجتمعت عليه سكرة الموت بكربته، وحسرة الفوت بغصته، فغير موصوف ما نزل به. وآخر مات من قبل أن يظفر منه بحاجته، فمات بغمه وكمده، ولم يدرك فيها ما طلب، ولم يرح نفسه من التعب والنصب، فخرجا جميعا بغير زاد، وقدما على غير مهاد، فاحذرها يا أمير المؤمنين الحذر كله، فإنما مثلها كمثل الحية، لين مسها، تقتل بسمها، فأعرض عما يعجبك فيها، لقلة ما يصحبك منها، وضع عنك همومها، لما قد أيقنت من فراقها، واجعل شدة ما اشتد منها رجاء ما ترجو بعدها، وكن- عند أسر ما تكون فيها- أحذر ما تكون لها؛ فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور، صحبته من سرورها بما يسوءه، وكلما ظفر منها بما يحب انقلبت عليه بما يكره، فالسار منها لأهلها غار، والنافع منها غدا ضار، وقد وصل الرخاء فيها بالبلاء، وجعل البقاء فيها مؤديا إلى الفناء، فسرورها بالحزن مشوب، والناعم فيها مسلوب.

فانظر يا أمير المؤمنين إليها نظر الزاهد المفارق، ولا تنظر نظر المبتلى العاشق، واعلم أنها تزيل الثاوي الساكن، وتفجع المترف فيها الآمن، ولا ترجع ما تولى وأدبر، ولا بد ما هو آت منها ينتظر، ولا يتبع ما صفا منها إلا كدر، فاحذرها فإن أمانيها كاذبة، وآمالها باطلة، وعيشها نكد، وصفوها كدر، وأنت منها على خطر، إما نعمة زائلة، وإما بلية نازلة، وإما مصيبة فادحة، وإما منية قاضية، فلقد كدرت المعيشة لمن عقل، فهو من نعيمها على خطر، ومن بليتها على حذر، ومن المنية على يقين.

فلو كان الخالق تبارك وتعالى لم يخبر عنها بخبر، ولم يضرب لها مثلا، ولم يأمر فيها بزهد، لكانت الدنيا قد أيقظت النائم، ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء عن الله عز وجل منها زاجر، وفيها واعظ، فما لها عنده قدر ولا وزن من الصغر، فلهى عنده أصغر من حصاة في الحصى، ومن مقدار نواة في النوى، ما خلق الله عز وجل فيما بلغنا أبغض إلى اله تعالى منها، ما نظر إليها منذ خلقها، ولقد عرضت على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بمفاتيحها وخزائنها، لا ينقصه ذلك عند الله جناح بعوضة، فأبى أن يقبلها، وما منعه من القبول لها – مع مالا ينقصه الله شيئا مما عنده كما وعده – إلا أنه علم أن الله عز وجل أبغض شيئا فأبغضه، وصغر شيئا فصغره، ولو قبلها كان الدليل على محبته قبوله إياها، ولكنه كره أن يخالف أمره، أو يحب ما أبغض خالقه، أو يرفع ما وضع مليكه.

وكان في آخر هذه الرسالة:

ولا تأمن أن يكون هذا الكلام حجة عليك،نفعني الله وإياك بالموعظة، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات النّاس

خوسيه موخيكا...ست رصاصات في الجسد ونضال ضد الدكتاتورية

الريف الجزائري بجماله الخلاق مع الشاعر الجزائري محمد العيد ال خليفة الرقيق المبدع الساحرة كلماته ...