** الى من فارقنا، إلى أحمد الشيعة


ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏شخص أو أكثر‏ و‏أشخاص يقفون‏‏‏

أبكيك وأنا اللاحق غدا، فلو كنت السابق لبكيتني وفجرت البكاء بتعابير يعجز عنها أقطاب الرثاء، فسامحني إن فاضت كلماتي ببحر من دموع العزاء. وأنا المتيقن أنك لا تحبذ أن تراني بفقدانك مهموما مكسور الجناح فاقد الدفة ممزق الشراع.
لكن ما عساي أن أفعل وقد فارقني مَنْ في درب الحياة كان لي خِلا وظلا، كان في متارس الثورة بلسما وجوهرة تشع أنوارها بالسخاء والعطاء، تتلألؤ هالتها لتحمينا من قتامة وشوائب تلك الأيام الضّباع.
فكم كنت فريدا في طباعك وشخصك، في ذكائك وعبقريتك. أمام كتاب كنا نسهر الليالي علّنا نغترف من علمه النزر القليل، أما أنت فكنت استثناءً، تتناوله برهة، تقلب صفحاته لحظات بين يديك ترمقه بنظرات، ثم تغلق دفتيه، وتبدأ بكشف مكنوناته، وتلخيص أفكاره وكأنك أنت كاتبه ومؤلفه.
كانت شخصيتك باقة من شخصيات لا أحد سواك قادر على جمعها في وئام وانسجام، فـكنت مع الطفل طفلا تسبقه إلى عالمه، بل تجعله يركب خيلا ويشيّد دنىً من خيال. ومع العامل البسيط ندّ تنزل في دنياه ورؤاه فتحلو له معاشرتك ومجالسك لأنه يرى نفسه منعكسة في مرآة كلها نقاوة وصفاء، ومن تلقاء نفسه يبدأ في الصعود إلى أعلى إلى التفاؤل وصقل الذات وتطويرها.
وأنت مع المتعالي، بسلوك لبق تجعله ينزلق من بُرْجه العاجي نازلا مع أدراج التعجرف والتكبر رويدا رويدا ولينتهي به المطاف في رحاب حقيقته كإنسان من فخار.
كنت البساطة وهي تمشي على قدمين، كنت الأناقة في التصرف والتسيير إذ لا تسه عن تقليم أظافرك إلى حد الأنامل تجنبا من خدش أو خمش كلمة منك ضميرا أو عاطفة من تسوس من الكادحين معك.
فطموحك كان طموحا ثوريا خالصا لخصته في تفانيك النضالي منذ البدء، تحويل الواقع المزري إلى آخر كله إزدهار، ولن يكون ذلك إلا بتنوير الأجيال، وجرف من أمامها واقع الجهل والتخلف.
فما أغرتك كراسي المناصب قط، بل تتفادى فضاءاتها وتنفر من كل ما يمد إليها بصلة، لأن ضميرك تعلم النقاء، من قطعة الطبشور وبياضها الناصع والتي نقشت بها فوق السواد ضياء المستقبل.
لم يكن حضورك في هذه الدنيا شمعة أنارت حلكا، بل كان مشعلا أكتسح وأزاح ما في رحابه من ظلام، وخير شاهد ما شهدت به الاجيال، وكمثال لا الحصر ما كتبه أحد تلامذتك، والذي أتصل بك قبل شهرين من رحيلك، يشكرك على ما قدمته من سخاء فكان جوابك له: ـ لم أقم بشيء فوق العادة، أنت تفانيت من أجل حقك كطالب وأنا قمت بواجبي كمدرس لاغير.
أتذكر أنه بعد أنقطاع بيننا وصلتني راسلة من عندك، من بين ما كتبت لي فيها أبياتا من قصيدة الوداع لابراهيم ناجي:
ربما تجمعنا أقدارنا ذات يوم بعدما عز اللقاء
إذا انكر خل خله وتلقاينا لقاء الغرباء
ومضى كل إلى غايته لا تقل شئنا فأن الحظ شاء
واليوم ما عز اللقاء فقط، بل حالت الموت بينا، وخطفتك منا بغتة، وما لنا سوى الصبر وتأسينا، باللقاء في دار بقاء لا نصيب فيها للموت والفناء. فما أغبى ما ترمينا فيه الأيام من تفاهات وترهات، فنهدر الساعات ونغفل عن لب الحياة، والمتمثل في تلك اللحظات البسيطة والعميقة في آن معا، والتي تجمعنا بالأحبة والإخوان، ولا نثمن ذلك إلا بعد فوات الأوان. والآن لا أمنية في نفسي تضاهي أمنية عودتك ولو نزر من دقيقة لأقولك أن تسامحني إن كنت يوما قد قصرت في حقك، واني كم أفتقدك، لكن هذه سنة الله في خلقه ولا يدوم إلا سواه.
سألتُ الدّار تُخبِرُني عن الأحبابِ ما فعلوا،
فقالت لي أناخ القوم أياماً وقد رحلوا،
فقُلت فأين أطلبَهم، وأيّ منازلٍ نزلوا؟
فقالت بالقبورِ وقد لقوا والله ما فعلوا.
فعلى روحك الطاهرة أترحم: اللهم ارحم روحا صعدت إليك لم يعد بيننا وبينها إلا الدعاء، اللهم ارحم أحمد واغفر له وانظر إليه بعين لطفك وكرمك يا رب العالمين.
بقلم الاستاذ بابا الحاج بابا احمد

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حكايات النّاس

خوسيه موخيكا...ست رصاصات في الجسد ونضال ضد الدكتاتورية

الريف الجزائري بجماله الخلاق مع الشاعر الجزائري محمد العيد ال خليفة الرقيق المبدع الساحرة كلماته ...