كيف نتعامل مع التاريخ ؟
د.نبيل الجزائري |
لا أدري لماذا البعض من الناس عندنا ممّن تستهويهم إثارة الفتن و النعرات لهم شهوة التنقيب في مزالق التاريخ و إخراجها عن سياقها قصد الخروج بكومة من نار لرميها علينا ، فتشعل الأخضر و اليابس و نحن في غنى عن ذلك . و ياليتهم عندهم علم فيخرجوه لنا، أو حجّة فيسكتوننا بها، أو حكمة فينوّرون عقولنا بها ، بل هي كلّها نظرات جزئية للتاريخ غير كلّية تفتقر إلى أدنى شروط المنهجية العلمية الصحيحة في استقرائه و دراسته و الاستفادة منه . إنّ من أهم أهداف دراسة التاريخ الاستفادة منه و ليس الأضرار به خاصة إن كان بجهل أو مداهنة أو نفاقا أو مداراة على سنّة المستشرقين المندسّين ..
عندما يستعمل بعض المغرضين اليوم مصطلح ' الزواف' الذي أطلقه المستدمر و المستخرب الفرنسي على مجموعة من المرتزقة الجزائريين في بداية احتلاله للبلاد مقترنا بمنطقة القبائل فهذه مغالطة كبيرة ، وقد تناقلها الناس اليوم بقصد أو عن غير قصد ، و الحقيقة أن من أخرج هذا المصطلح من القاموس الفرنسي الاستعماري اليوم لا يريد الخير للجزائر و مثله مثل فرحات مهني و أتباعه في تشجيع فكر التعصّب الجهوي و نزعة الانفصال ، و هذا ينافي روح بيان أوّل نوفمبر ١٩٥٤ الذي طُبع و نُسخ في قرية إيغيل إمولة ببلاد القبائل ، و نكران لوطنية القبائلي محمد اوزعموم ( من قبيلة إفليسن) الذي ألحق أوّل هزيمة بالجيش الفرنسي خارج العاصمة في البليدة سنة ١٨٣٠ بقيادة الدوق دي بورمون الذي أُقيل بسببها ، ليبايع القائد أوزعموم الامير عبد القادر العربي فيما بعد و يعيّن له خليفة في بلاد القبائل هو أحمد بن سالم٠ و هو أيضا تجاهل للعقيد اوعمران الذي نفّذ أول هجوم كبير ليلة أوّل نوفمبر ١٩٥٤ في البليدة ب١٥٠ مجاهد قبائلي ضد الدرك الفرنسي و المستوطنين الفرنسيين ، و تجاهل لما قاله الكولونيل لونوبل أن الجنرال بيجو لم يستطع أن يتقدًّم للقبض على الامير عبد القادر سنة ١٨٣٧ بسبب أنّه كان محميا ب١٥٠٠ رجل من أبناء القبائل ، في حين أن كثيرا من القبائل العربية خانته آنذاك على ذكر شيخ العرب البسكري بن قنة الذي تحالف مع ' غالبو' ضد الامير ، و قد حملته ثقته - الامير عبد القادر - في الزواوة ' القبايل ' أن يأمر بانضمام فيالق محمد بن عيسى البركاني بالمدية إلى إمرة أحمد بن سالم ببلاد القبائل . ناهيك عن استعانة أحمد باي ببن عيسى مع ألفين من جند الزواوة ( القبايل ) لحماية قسنطينة ، و كان قائد المعارك محمد الباوي الزواوي ( ١٨٣٦) الذي دافع عن عنابة قبلها سنة ١٨٣٢. و يذكر المًؤرّخ الكبير أبو القاسم سعد الله رحمه الله أن قبايل الزواوة جهّزت ١٨ ألف مقاتل للداي حسين للدفاع عن الجزائر المدينة لولا سرعة استسلامه و إمضائه لمعاهدة صلح مع فرنسا مقابل خروجه من البلد مع بعض العائلات التركية الثرية . في حين لم يسيطر الفرنسيون على قبائل الزواوة إلا في سنة ١٨٥٧ و كانت آخر حصن جزائري منيع يسقط، يقول عنه المؤرخ الفرنسي Paul Rencin : "La soumission de la Grande Kabylie termine la conquête "de l'Algerie
" استسلام القبايل الكبرى أنهى مهمّة احتلال الجزائر ". Nos Zouaves, p134, edition 1888
" استسلام القبايل الكبرى أنهى مهمّة احتلال الجزائر ". Nos Zouaves, p134, edition 1888
إن الزواف و هو الجهاز التنفيذي الذي وضعه العثمانيون من أجل جمع الضرائب و الخراج من الناس ، كان مقرّهم في الجزائر المدينة و ليس في بلاد القبايل ، و لم يكونوا كلّهم من الزواوة ، فبعضهم كان من العرب و من الكراغلة و من أصول أندلسية ، و عندما ذهب العثمانيون استغل الفرنسيون هذا الجهاز ( الذي كانوا يعرفونه جيّدا ) و حوّلوه إلى ميليشيا ثم فرقة عسكرية بسرايا في عهد الجنرال كلوزيل تضم ١٦٠٠ عنصر : ٥٠٠ من الأهالي ( زواوة و كراغلة و عرب و مورس) و ١١٠٠ من الجنود الفرنسيين الذين حاربوا شارل العاشر و كانوا في باريس بدون عمل بعد حل جهازهم العسكري ، و كان ضمن هذه الفرقة من الزواف أشهر الضباط الفرنسيين على غرار La Morcière و Cavaignac.
ما يجب أن يعرفه القارىء أن الزواف الجزائريين كانوا مرتزقة ، ذلك أن الوعي القومي لم يكن موجودا في الجزائر الا بعد ظهور الحركات الإصلاحية و الفكرية و الوطنية بعد القرن التاسع عشر ، و الدليل أن أغلبية الزواف المرتزقة فرّوا بأسلحتهم من النظام الاستعماري و التحقوا بجيش الامير عبد القادر و كوّن منهم فرقة المنتظمين الحمر ( نسبة لتنظيمهم المحكم و برنوسهم الأحمر ) ، و قد ساهموا بشكل رئيسي و فعّال في تدريب جيش الامير و نقل المهارات و التقنيات العسكرية الفرنسية الحديثة إليه ، حتّى إذا وصلت سنة ١٨٤١ أصبح جهاز الزواف فرنسيا خالصا و لم يعد مفتوحا للأهالي ، علما أنه كانت له فرق في مدينة الجزائر ، وهران ، قسنطينة و تونس بأعداد متفاوتة . ثم شارك هذا الجهاز في حروب خارج الجزائر مثل حروب القرم ،الحرب ضد النمسا ، ضد بروسيا ، الهند الصينية ، كمبودجيا .. و أسّست بلدان أخرى ًزوافها أيضاً ( بمثابة فرق الصاعقة او الكومندوس ) في بولونيا و الفاتيكان و أمريكا في حربها الأهلية و غيرها .
أتعجّب لماذا يركّز بعض السياسويين الذين يزايدون على الوطنية في استعمال مصطلح اعتمده الفرنسيون و لا يركّزون على مصطلح اعتمده الجزائريون في كنايتهم للخونة يعرفه الخاص و العام و هو : القومية Goumia !
القومية Goumiers التي أسّسها شيخ العرب الجنرال مصطفى بن اسماعيل في سهول مليطة بالجنوب الشرقي لمدينة وهران إثر اتفاقية مع فرنسا سنة ١٨٣٥ ، و التي شاركت في ربح معركة الزقاق ضد الامير عبد القادر ب ٤٠٠ فارس ، و زوّدت الجنرال كلوزيل ب٥٠٠ فارس و ٨٠٠ جمل .. كانت جزائرية خالصة حتى أيام الثورة !!.. لذلك اعتمدها المجاهدون في الحديث عن الخونة و لم يعتمدوا كلمة الزواف .. 'القومية' موجودة في قاموس ثورتنا و ما زالت ، أما 'الزواف' فهو مصطلح موجود في كتب التاريخ الفرنسية ..
لا يجب أن ننسى فرقة السبايس في عنابة ووهران و الجزائر و كانوا يقسمون على القرآن الكريم لخدمة فرنسا ، و فرقة الرماة الجزائريين les Tirailleurs في عنابة و قسنطينة و الجزائر ، و القناصة الجزائريون les Chasseurs في الجزائر و وهران و عنابة ، و فرقة الميهارسيت الصحراوية Méharsites .. فرنسا لم تكن غبية ، و كل استعمار ظالم لا بد و أن يفكّر في أغرب وسيلة للإستبقاء : و هو استعمال الأهالي في قتل أهلهم و حرق أرضهم في ظل غياب الوعي القومي الوطني ، أو تحت طائلة التفقير و التجهيل و التجويع و الترهيب و الترعيب!
ما لا نرضاه هو إعطاء صبغة جهوية أو عرقية أو أيديولوجية أو سياسية لحدث تاريخي من أجل تحويله إلى حبكة درامية خارجة عن السياق الزمني و النسق الإجتماعي ، و اللعب على النظرة التعميمية التي تجعل كل كائن حي بأربعة أقدام قطّا كما هو الشأن عند الأطفال الصغار الذين ينقصهم العلم و الخبرة بالحياة ، من أجل استدراج العقول الخاوية ، و استفزاز المشاعر العادية ، و إيقاظ الفتن النائمة ، و إخراج التاريخ عن وظيفته الانسانية كونه مغترف العبر و العظات .
يجب أن نتعلّم كيف نتعامل مع التاريخ في إطار المصلحة العليا للوطن ، و ليس في إرباكه و تقسيمه بصناديق من البارود الجاهزة !
تعليقات
إرسال تعليق